الفقه وأصوله، والعقيدة، والتفسير، وغير ذلك من العلوم الشرعية:
اعلم - رحمك الله - أن علوم الشريعة - على عظيم شأنها - لا سبيل إلى استخلاص حقائقها، والنفاذ إلى أسرارها بغير علم النحو، فهل ندرك كلام الله تعالى، ونفهم دقائق التفسير، وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم، وأصول العقائد، وأدلة الأحكام، وما يتبع ذلك من مسائل فقهية، وبحوث شرعية مختلفة، قد ترقى بصاحبها إلى مراتب الأئمة، وتسمو به إلى منازل المجتهدين إلا بتعلم علم النحو، بل وبالتوسع في تعلمه، والإحاطة بقواعده.
فالنحو لا يستغنى عنه، ولا يوجد بد منه، ومن جهله فبضاعته من العلوم مزجاة، وفهمه عقيم، ومن أتقنه وبرز فيه فهو من أصحاب السبق؛ لأن النحو مرقاة للوصول إلى سائر الفنون.
وإنه لا يشك أحد في أن ثمار القواعد اللغوية والنحوية التي اعتنى بتدوينها علماء العربية، إنما ميدان جنيها في نصوص الكتاب والسنة، فبها استنبط أهل العلم أحكامًا في العقائد، وأخرى في الحلال والحرام، كما سنبين قريبًا، إن شاء الله تعالى. فالنحو وسيلة لفهم كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالفقيه والمفسر بلا لغة، ولا نحو، كالداخل غمار الحرب، بلا سلاح، وهذا لا شك في هلاكه.
قال الزمخشري رحمه الله: فليس هناك علم من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بيّن لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، وكذلك الكلام في معظم أبواب أصول الفقه مبني على علم الإعراب. اهـ.
وقال الشافعي رحمه الله: من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم. يعني رحمه الله تعالى: علوم الشريعة. اهـ.
وقال أيضًا رحمه الله: "علماء العربية جن الإنس، يبصرون ما لا يبصره غيرهم". اهـ.
وقال مالك بن أنس رحمه الله: "لو صرت من الفهم في غاية، ومن العلم في نهاية؛ لأن ذلك يرجع إلى أصلين: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى الرسوخ فيهما إلا بمعرفة اللسان العربي، فلو أن الرجل يكون عالمًا بسائر العلوم، جاهلًا به، لكان كالساري، وليس له ضياء". اهـ.
قال ابن الأزرق معلقًا على كلام الإمام مالك رحمهما الله: "وكيف له بالضياء في ظلمة مسيره، وهو إذا كان جاهلًا بالنحو، وبما يتوقف عليه كمال الفهم من سائر علوم اللسان لا مطمع له في فهم الكتاب والسنة على حد ما يفهمه صاحب اللسان العربي بالملكة أو الصناعة، فإذًا لا تغنيه علومه، ولا تنهض به إلى قرع هذا الباب، الذي هو المسلك الأول إلى الفهم عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم". اهـ.
وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: "إن هذه الشريعة العربية مباركة، فمن أراد تفهمها فمن جهة لسان العرب تفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هذه الجهة". اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه". اهـ.
وقال السيوطي رحمه الله تعالى في شرح ألفيته: "وقد اتفق العلماء على أن النحو يحتاج إليه في كل فن من فنون العلم، ولا سيما التفسير والحديث". اهـ.
وقد سئل ابن رشد الجد رحمه الله عمن قال: "لا حاجة لي إلى تعلم لسان العرب". فقال: "هذا جاهل جدًّا، ويؤدبه الإمام إذا قال ذلك لخبث في دينه: لأنه قال قولًا عظيمًا، ولا يصح شيء من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب". اهـ.
وقال أبو منصور الثعالبي: "العربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمهما من الديانة: إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين". اهـ.
وقال ابن خلدون - رحمه الله -: في "الفصل السادس والثلاثين في علوم اللسان العربي" من مقدمته صـ 545: "أركانه أربعة، وهي: اللغة، والنحو، والبيان، والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة: إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة". اهـ.
وقال الشاعر:
يا حبذا النحو من مطلب
تعالى به قدر طلابه
كأن العلوم له عسكر
خضوع وقوف على بابه
وقال آخر:
النحو قنطرة إلى العلوم فهل
يجاوز البحر إلا بالقناطير
إن الكلام بلا نحو يقاومه
نبح الكلاب وأصوات السنانير
لو تعلم الطير ما في النحو من شرف
حنت ورنت ودقت بالمناقير
قد جعل علماء أصول الفقه من شروط المجتهد أن يكون عالمًا بأسرار العربية، وبخاصة علم النحو، قال الأنصاري الحنفي في "فواتح الرحموت" 2/ 363، من شروط المجتهد أنه لا بد من معرفة التصريف والنحو واللغة. اهـ.
وقد نقل أبو البركات الأنباري رحمه الله إجماع الأئمة من السلف والخلف قاطبة على أن النحو شرط في رتبة الاجتهاد، وأن المجتهد لو جمع كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النحو، فيعرف به المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره، فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه، لا تتم إلا به.
فهذه أقوال بعض أهل العلم في أهمية علم النحو بالنسبة لسائر علوم الشريعة على سبيل العموم، وفيما يلي إن شاء الله تعالى نذكر طرفًا من أهمية علم النحو بالنسبة لكل علم من علوم الشريعة على وجه الخصوص علمًا علمًا، مع ضرب الأمثلة من الكتاب والسنة وعلى ذلك، وذكر طرف من أقوال أهل العلم الواردة في أهمية علم النحو في كل علم من علوم الشريعة بخصوصه.